حكايات التاريخ.. مسجد أحمد بن طولون
مسجد أحمد بن طولون، بناه الأمير أحمد بن طولون على جبل يشكر في الجهة الجنوبية من القاهرة، وهو أقدم مساجد مصر بلا نزاع، بل أقدم آثارها العربية بعد مقياس النيل بجزيرة الروضة.
السبب في إنشاء الجامع يرجع لأن الناس كانوا يُصلُّون في جامع العسكر، فلمَّا قَدِم ابن طولون صار يُصلِّي فيه الجمعة، ثم ضاق على المصلِّين بجنده، وشكا أهل مصر إليه فعزم على بناء جامع، فأشار عليه جماعة من الصالحين أن يَبْنِيَه على جبل يشكر وذكروا له فضائله فأخذ برأْيهم.
اختلف الرُّواة في سبب تسميته بجبل يشكر، فقال القضاعي: يُنسَب إلى يشكر بن جزيلة من لَخْم قبيلة من قبائل العرب اختَطَّتْ عند الفتح بهذا الجبل فعُرف بجبل يشكر لذلك «خطط المقريزي»، ونقل الحافظ جمال الدِّين اليغموري أنَّ يشكر المنسوب إليه هذا الجبل كان رجلًا صالحًا، وقال المقريزي: وكان هذا الجبل يُشرِف على النيل، وليس بينه وبين النيل شيء، وكان يُشرِف على البركتين؛ بركة الفيل، والبركة التي تُعرَف اليوم ببركة قارون. وعلى هذا الجبل كانتْ تُنصَب المجانيق التي كانت تُجرَّب قبلَ إرسالها إلى الثُّغور "الخطط".
قال المقريزي: ابتدأ بنيانه في سنة ثلاث وستين ومائتين هجرية، وفُرغ منه في سنة خمس وستين ومائتين، وذهب آخَرون منهم أبو المحاسن بن تغري بردي وابن دقماق إلى أنَّ أحمد بن طولون شرع في بنائه في سنة ٢٥٩ﻫ. وخالَفَهم الكندي فقال: ابتدأ في بنائه سنة أربع وستين ومائتين هجرية، وقضي في سنة ٢٦٦ﻫ، والصحيح هو ما أَوْرده المقريزي، فقد ثبت ما قاله عن تاريخ الفراغ من البناء؛ لأنه واردٌ في كتابة الجامع التاريخية، وهي منقوشة في لوح من الرخام بالقلم الكوفي البسيط بخطٍّ ممتلئٍ قليل الارتفاع متقارب الحروف.
وفي سنة ١٨٩٠م بينما كانت لجنة حفظ الآثار العربية تُجرِي بعض الأعمال بالجامع عُثِر بين الأنقاض على بعض قِطَع من الرخام جُمِعتْ ورُتِّبتْ فتألَّف منها اللوح الموجود الآن، وهو النصف من إحدى كتابتَيْ مارسيل.
ذكر المقريزي أنَّ الذي تولَّى بناء الجامع لأحمد بن طولون كان رجلًا نصرانيًّا حسن الهندسة حاذقًا بها، وكان عَهِد إليه ببناء عين ماء، وجعل عليها قناطر لا تزال بقيةٌ منها موجودة إلى الآن، واتَّفق أنَّه لمَّا فرغ مِن بنائها وأقبل أحمد بن طولون ليتفرَّج عليها غاصَتْ يدُ فرَسِه في موضع لم يَجِفَّ بناؤه فغضب على المهندس وضرَبَه وأمَرَ به إلى المطبق "السجن" فأقام به مدة.
ولمَّا أراد أحمد بن طولون بناء الجامع قدَّر له ثلاثمائة عمود، وقيل له لا تجدها أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب فتحمل ذلك، فلم يرضَ، وبلغ الخبر المهندس النصراني وهو في المطبق، فكتب إليه يقول: أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عُمُد إلا عمودي القِبْلة، فأحضره وسأَلَه فقال: أنا أصوِّره للأمير حتى يراه عيانًا بلا عُمُد إلا عمودي القِبْلة، فأمر أن تُحضَر له الجلود فأُحضِرت وصوَّره له فأعجبه، ووضع المهندسُ يده في البناء في الموضع الذي هو فيه وهو جبل يشكر فكان يُنشَر منه ويعمل الجير ويُبنَى إلى أن فَرغ من جميعه وبَيَّضه.